عمال إبن ميمون صفحة من مخطوط لكتاب ابن ميمون عن اللغة العربية في الرسائل العبرية
وفي سني العمل المتواصل التي أقامها بالقاهرة ألف معظم كتبه. ومن هذه
المؤلفات عشرة كتب في الطب باللغة العربية نقل فيها آراء أبقراط، وجالينوس،
وديسقوريدس، والرازي وابن سينا. وقد اختصر في كتاب الأمثال الطبية كتاب
جالينوس إلى ألف وخمسمائة عبارة قصيرة تشمل كل فرع من فروع الطب، وترجم هذا
الكتاب إلى اللغتين العبرية واللاتينية، وكثيراً ما كان ينقل عنه في أوربا
ويصدر ما ينقل بتلك العبارة: "قال الحبر موسى". ووضع مقالة في تدبير الصحة
للملك الأفضل على بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ ومقالة أخرى
في الجماع لسلطان حماة الملك المظفر تقي الدين أبي سعيد عمر ابن نور الدين
تحدث فيها عن الجماع من الوجهة الصحية، وعن عجز القوة الجماعية، وعن
الانتصاب الدائم، وعن الأدوية المقوية للباه.
وقد أضاف
ابن ميمون إلى هذه الرسائل عدة مقالات كل منها في موضوع واحد منها مقالة في السموم
والتحرز من الأدوية القتّالة ، ومقالة في الربو ، وأخرى في البواسير،
ورابعة في السوداء-ومقالة جامعة في شرح العقار. وتحتوي هذه الكتب الطبية،
كما تحتوي سائر الكتب، على أقوال لا تتفق مع عقائد هذا لزمان السريعة
التبدل-المعصومة من الخطأ-كقوله إنه إذا كانت الخصية اليمنى أكبر من اليسرى
كان المولود الأول ذكراً ؛ ولكنها تمتاز برغبة صادقة في مساعدة المرضى،
ببحثها الذي يمتاز بالتسامح والمجاملة في الآراء المتعارضة، وبما يسري فيها
من طابع الحكمة والاعتدال في النصح ووصف الدواء. ولم يكن ابن ميمون يصف
العقاقير إذا ما أغنى عنها تنظيم الغذاء. وقد حذر الناس من كثرة الطعام
بقوله إن المعدة يجب ألا تنتفخ كأنها خراج. وكان يظن أن الخمر تفيد الصحة
إذا شربت باعتدال ، ونصح بدرس الفلسفة لأنها تدرب على الاتزان العقلي
والخلقي وعلى الهدوء وهما الصفتان اللتان تؤديان إلى صحة الجسم وطول العمر.
وبدأ ابن ميمون في الثالثة والعشرين من عمره شرحاً للمشنا، وظل يكدح في
هذا العمل عشر سنين بين مشاغله التجارية، والطبية، والأسفار الخطرة براً
وبحراً. ولما نشر هذا الشرح في القاهرة عام
1158 باسم كتاب السراج رفع ابن ميمون من فوره-وكان لا يزال شاباً لم يتجاوز
الثالثة والثلاثين من عمره-إلى منزلة بين شراح التلمود عليها إلا منزلة
راشي، وذلك بفضل ما يمتاز به من الوضوح، وغزارة المادة، وصدق الأحكام. وبعد
عشرين سنة من ذلك الوقت نشر أعظم كتبه كلها باللغة العبرية الجديدة وسماه
متحدياً مستشيراً مشنا التوراة، وقد رتب فيه نظام منطقي، وإيجاز واضح، كل
ما حوته أسفار موسى الخمسة من القوانين وجميع قوانين المشنا والجمارا ما
عدا النزر اليسير. ويقول في مقدمة الكتاب: "لقد سميت هذا الكتاب مشنا
التوراة (تكرار الشريعة) لأن من يقرأ الشريعة المسطورة (الأسفار الخمسة)
لأول مرة، ثم يقرأ هذه المجموعة، يعرف الشريعة الشفوية جميعها من غير أن
يحتاج في ذلك إلى الرجوع إلى أي كتاب آخر"، وقد أغفل فيه بعض ما ورد في
التلمود من قواعد خاصة بالفأل والطيرة، والتمائم، والتنجيم، فكان ذلك من
بين مفكري العصور الوسطى القلائل الذين لم يؤمنوا بالتنجيم. وقد قسم
الأوامر الواردة في الشريعة والبالغ عددها 613 أربعة عشر قسماً وضع لكل
واحد منها عنواناً وخص كل عنوان "بكتاب". ولم يكتف بشرح كل قانون بل أخذ
على نفسه بيان ضرورته المنطقية أو التاريخية. ولم يترجم إلى الإنجليزية من
هذه الكتب الأربعة عشر إلا كتاب واحد، وهو مجلد ضخم نستطيع به أن نتبين
ضخامة الكتاب الأصلي كله.
The title page of The Guide for the Perplexed
ويتضح من هذا الكتاب ومن كتابه الآخر الذي صدر بعده وهو: دلالة
الحائرين، أن ابن ميمون لم يكن من الذين يجهرون بالإلحاد. بل إنه قد حاول
جهده لكي يرجع المعجزات الواردة في الكتاب المقدس إلى علل طبيعية، ولكنه
كان يدعو إلى الاعتقاد بأن كل لفظ في أسفار موسى الخمسة موحى به من الله،
وإلى العقيدة الدينية القائلة بأن الشريعة الشفوية قد نقلها موسى إلى كبار
رجال إسرائيل. ولعله كان يشعر بأن اليهود لا يستطيعون أن يكون اعتقادهم في
الكتاب المقدس أقل شأناً من اعتقاد المسيحيين والمسلمين فيه، ولعله هو
أيضاً كان يرى أن لا قيام للنظام الاجتماعي بغير الاعتقاد في قدسية أصل
القانون الأخلاقي. وكان ابن ميمون وطنياً شديد الحب لوطنه لا يقبل في
عقيدته جدلاً "يجب على جمع بني إسرائيل أن يتبعوا كل ما ورد في التلمود
البابلي، وعلينا أن نرغم اليهود في جميع أنحاء الأرض على أن يستمسكوا
بالعادات والأساليب التي قررها حكماء التلمود". وكان أكثر حرية إلى حد ما
من معظم المسلمين والمسيحيين في أيامه، فكان يعتقد أن غير اليهودي المتمسك
بأهداب الفضيلة، المؤمن بوحدانية الله، يدخل الجنة، ولكنه لم يكن يقل قسوة
على كفرة اليهود من سفر التثنية أو التركمادا، ويقول إن اليهود الذين
ينبذون الشريعة اليهودية يجب أن يقتلوا، و "من رأيي أن جميع أفراد العشيرة
اليهودية التي بلغت من القحة والجرأة ما جعلها تخالف أمراً من أوامر الله
يجب أن يعدموا". وقد استبق أكويناس في الدفاع عن القتل جزاء للإلحاد بحجة
"أن القسوة على من يضلون الناس سعياً وراء الزهو والخيلاء إنما هي رحمة
بالعالم"، وارتضى دون عناء عقوبة الإعدام التي يفرضها الكتاب المقدس جزاء
للسحر، والقتل، ومضاجعة المحارم، وعبادة الأوثان، والسرقة بالإكراه، وخطف
الأشخاص، وعصيان الأبناء للآباء، وخرق حرمة السبت. ولعل أحوال اليهود حين
هاجروا من مصر القديمة، وحاولوا أن يؤسسوا لهم دولة من جماعة معدمة لا وطن
لها، تقول لعل أحوال هؤلاء اليهود كانت تبرر وضع هذه القوانين. ولقد كانت
حالة اليهود المزعزعة المضطربة في أوربا المسيحية أو أفريقية المسلمة كانت
تتطلب قانوناً صارماً يخلق فيهم النظام والوحدة، ولكن الآراء المسيحية،
والعادات اليهودية أيضاً في أغلب الأحيان، كانت أرحم من القوانين اليهودية
في هذه الأمور (قبل أيام محكمة التفتيش). وإن في نصيحة ابن ميمون التي
يسديها إلى يهود زمانه لجانباً من هذه الروح أفضل من الجانب الصارم السالف
الذكر: "إذا قال للكفرة لبني إسرائيل:
أسلمونا أحدكم لنقتله وجب عليهم أن يتحملوا جميعاً آلام القتل ولا يسلموا إليهم واحداً من أبناء إسرائيل".
وأظرف من هذه الصورة صورة هذا العالِم وهو ينحدر إلى الشيخوخة، فقد
أيد في هذه السن قول أحبار اليهود إن "اللقيط العالم (بالشريعة) يسبق
الكوهن الأكبر الجاهل". وهو ينصح العالم بأن يخصص من وقته ثلاث ساعات في كل
يوم لكسب العيش وتسعاً لدراسة التوراة. وكان يعتقد أن البيئة أقوى أثراً
من الوراثة، ولذلك أشار على طالب العلم أن يسعى إلى صحبة الصالحين العقلاء
من الناس. وينصح طالب العلم بألا يتزوج حتى يكتمل علمه، ويتخذ له حرفة،
ويشتري له منزلاً ، وعندئذ يصح له أن يتزوج أربع نساء، ولكن لا يصح له أن
يباشرهن إلا مرة واحدة في كل شهر.
"نعم إن مباشرة الإنسان لزوجته مسموح به على الدوام، ولكن من واجب
العالم أن يصطنع القداسة في هذه العلاقة أيضاً، فعليه ألا يكون على الدوام
مع زوجته كما يفعل الديك، بل يجب عليه أن يؤدي الواجب الزوجي في ليلة
الجمعة... ويجب على الزوج والزوجة وقت المضاجعة ألا يكونا في حالة سكر، أو
فتور، أو حزن، وألا تكون الزوجة نائمة في ذلك الوقت".
وهكذا ينشأ آخر الأمر الحكيم الذي:
"يتصف بالتواضع الجم، ولا يكشف رأسه أو جسمه... ولا يرفع صوته فوق
الحد الواجب إذا تكلم، حديثه مع الناس جميعاً ظروف... بتجنب المبالغة
والتصنع في الحديث، يعدل في حكمه على الناس، يؤكد فضائل غيره، ولا يتحدث عن
أحد بسوء".
طبعة حديثة لكتاب مشناه توراه
ولا يذهب إلى المطاعم إلا عند الضرورة القصوى: "فالرجل الحكيم لا يأكل
في بيته ومن مائدته"(58). وهو يدرس التوراة في كل يوم حتى يموت، ويحذر ألا
يخدعه أحد بأنه المسيح، ولكنه لن يفقد إيمانه بأن المسيح الحق سيأتي ويعيد
إسرائيل إلى صهيون، ويقود العالم كله إلى الدين الحق، وإلى الوفرة،
والأخوة، والسلام: "تفنى جميع الأمم أما اليهود فباقون غلى أبد الدهر".
وغضب أحبار اليهود من مشنا التوراة، فقلما كان في وسع أحد منهم أن يعفو عما
يرمي إلى من إحلال كتابه محل التلمود مع ما في هذا من جرأة، وقد استاء
كثيرون من اليهود مما عزى إلى ابن ميمون من القول بأن من يدرس الشريعة أعلى
مقاماً ممن يعمل بها. ولكن الكتاب رغم هذا كله قد جعل صاحبه أعظم اليهود
جميعاً في عصره، فارتضاه جميع يهود المشرق مستشاراً لهم وبعثوا إليه
بمسائلهم ومشاكلهم، وخيل الناس في جيل من الزمان أو الجاؤنية قد عادت إلى
الوجود. ولكن ابن ميمون لم ينتظر حتى يستمتع بهذا الصيت، بل شرع من فوره
يؤلف كتابه التالي، فبعد أن قنن الشريعة ووضوحها لليهود المؤمنين، وجه
جهوده للعمل على أن يعيد إلى حظيرة الدين اليهودي من أغرتهم الفلسفة أو
أغوتهم جماعات الملاحدة من اليهود القرائين في مصر، وفلسطين، وشمال
أفريقية، وأصدر إلى العالم اليهودي بعد عشر سنين من الكد أشهر كتبه كلها
وهو: دلالة الحائرين (1190)، وقد كتبه باللغة العربية بحروف عبرية ثم ترجم
إلى اللغة العبرية وسمى: مودة نبو حيم، ثم ترجم كذلك إلى اللاتينية وأثار
عاصفة من أشد العواصف الذهنية في القرن الثالث عشر.
ويقول في مقدمة الكتاب إن غرضه الأول من وضعه أن يشرح بعض الألفاظ
الواردة في الكتب المتنبئة، أي في العهد القديم. ذلك أن كثيراً من ألفاظ
الكتاب المقدس وفقراته ذات معان متعددة، حرفية، ومجازية، ورمزية فمنها ما
إذا أخذ بمعناه الحر في كان عقبة كؤوداً في سبيل المخلصين لدينهم، ولكنهم
إلى هذا يحترمون العقل أعظم مواهب الإنسان. أولئك ينبغي ألا يخيروا بين
الدين بلا عقل وبين العقل بلا دين. وإذا كان العقل قد غرسه الله في
الإنسان، فإنه لا يمكن أن يتعارض مع الوحي الإلهي، فإذا ما حدث هذا التعرض
فسبب هذا-في رأي ابن ميمون-أننا نأخذ بمعناها الحرفي بعض العبارات الموائمة
للعقلية الخيالية التصويرية التي هي من خصائص السذج غير المتعلمين الذين
وجه إليهم الكتاب المقدس. ولقد قال أحبارنا إن من المحال أن نصف خلق
الإنسان وصفاً كاملاً... ولقد وردت قصة هذا الخلق بعبارات مجازية حتى
يستطيع فهمها غير المتعلمين كل بقدر ما له من مواهب، وما عليه إدراكه من
ضعف. أما المتعلمون فيفهمونه فهماً مختلفاً عن فهم هؤلاء(61). ثم ينتقل ابن
ميمون من هذه النقطة الأولى إلى البحث في الذات الإلهية فيستنتج مما في
الكون من شواهد التنظيم المحكم أن عقلاً سامياً يسيطر على هذا الكون، ولكنه
يسخر من الرأي القائل إن الأشياء جميعها قد صنعت من أجل الإنسان(62)؛
فالأشياء لم توجد إلا لأن الله، وهو مصدرها وحياتها، موجود: "ولو أمكننا أن
نفترض أنه غير موجود لا ستتبع هذا أن لا شيء غير ممكن الوجود". وإذ كان لا
بد بهذه الطريقة من وجود الله، فإن وجوده متلازم مع جوهره. و "الشيء الذي
يحتوي في ذاته على ضرورة وجوده، لا يمكن أن يكون لوجوده علة أياً كانت " .
وإذ كان الله عاقلاً، فلا بد أن يكون غير ذي جسم؛ وعلى هذا فكل ما ورد في
الكتاب المقدس من عبارات تشير إلى شيء من أعضاء الجسم أو أية صفة من صفاته
يجب أن يفسر تفسيراً مجازياً. والحق، كما يقول ابن ميمون (ولعله يحذو في
قوله هذا الحذو المعتزلة)، أننا لا نستطيع معرفة شيء عن الله إلا أنه
موجود، بل إن الصفات غير الجسمية التي نصفه بها-كالعقل، والقدرة على كل
شيء، والرحمة، والحب، والوحدة والإرادة-كلها من نوع الجناس فهي إذا وصف بها
الله كان لها معنى غير معناها إذا ما وصف بها الإنسان. ولن نستطيع قط أن
نعرف معناها بالضبط إذا وصف بها الله، وليس في وسعنا أن نعرفه، ولا ينبغي
لنا أن نعزو إليه خواص أو صفات أو نثبت له شيئاً من أي نوع كان. فإذا قيل
في الكتاب المقدس إن الله أو المَلَك "كلم" الأنبياء"، فليس لنا أن نتخيل
لفظاً أو صوتاً، والنبوة هي تنمية المخيلة إلى أقصى درجات النماء"، وهي فيض
"الذات الإلهية" عن طريق الحلم أو النشوة الإبصارية، فالذي يقصه الأنبياء
لم يحدث في الواقع وإنما حدث في هذه الرؤيا أو الحلم، وعلينا أن نفسره في
معظم الأحوال تفسيراً مجازياً "ولقد قال بعض حكمائنا في وضوح إن أيوب لم
يكن له قط وجود، وإنما خلقه الشعراء خلقاً... ليكشفوا بهذا عن أهم
الحقائق". وهذا الإلهام التنبؤي في مقدور أي إنسان إذا نمى مواهبه إلى أقصى
حدود النماء، ذلك بأن العقل البشري إلهام مستمر، لا يختلف اختلافاً
جوهرياً عن بصيرة الأنبياء الواضحة الساطعة.
وبعد فهل خلق الله العالم في زمان معين، أو أن الكون ذا المادة
والحركة، كما يظنه أرسطو، أزلي؟ يقول ابن ميمون إن هذا ما يحتار فيه العقل؛
فليس في وسعنا أن نثبت أزلية العالم أو خلقه؛ وإذن فالمتمسك بعقيدة آبائنا
القائلة بخلقه ، ثم ينتقل من هذا إلى تفسير قصة الخلق الواردة في سفر
التكوين تفسيراً مجازياً رمزياً: فآدم عنده هو الصورة الفعّالة أو الروح،
وحواء هي المادة المنفعلة وهي مصدر كل شر، والأفعى هي الخيال. ولكن الشر
ليس له وجود ذاتي موجب، وإنما هو انتفاء الخير؛ وترجع معظم مصائبنا إلى ما
ترتكبه من أخطاء؛ ومن الشرور ما ليس شراً إلا من وجهة نظر الإنسان أو وجهة
النظر الضيقة؛ وقد تكشف النظرة الكونية في كل شر ما هو خير للكل أو ما هو
في حاجة إليه. وقد أباح الله للإنسان الإرادة الحرة التي تجعل منه إنساناً
بحق؛ وقد يختار الإنسان الشر أحياناً؛ والله تعلم مقدماً بهذا الاختيار،
ولكن ليس هو الذي يقرره ويحتمه.
وهل الإنسان مخلد؟ هنا يستخدم ابن ميمون كل ما وهب من قدرة للتعمية
على قرّائه، فهو يتجنب هذا السؤال في كتاب دلالة الحائرين، ولا يشير إليه
إلا بقوله "إن النفس التي تبقى بعد الموت ليست هي النفس التي تعيش في
الإنسان حين يولد". وهذه النفس أو العقل "المنفعل" وظيفة من وظائف الجسم
تموت بموته؛ أما الذي يبقى فهو "العقل المكتسب" أو "العقل الفعّال" الذي
وجد قبل الجسم، وليس وظيفة من وظائف على الإطلاق. وهذه النظرة نظرة أرسطو
وابن رشد تنكر كما يبدو الخلود الفردي. ولقد أنكر ابن ميمون في مشنا
التوراة فكرة بعث الجسم وسخر من تصوير المسلمين للجنة تصويراً جسمانياً
أبيقورياً، وقال إن تصويرها على هذا النحو في الإسلام واليهودية ليس إلا
تمثيلاً لها بما يناسب خيال جمهرة الناس وحاجاتهم. وأضاف في دلالة الحائرين
إلى قوله هذا أن: الموجودات غير الجسمية لا يمكن إحصاؤها إلا حين تكون قوى
كائنة في الجسم ؛ وينطوي قوله هذا، كما يبدو، على أن الروح غير المادية
التي تبقى بعد فناء الجسم ليست بذات إدراك فردي. وقد أثارت هذه الإشارات
المتشككة كثيراً من الاحتجاجات لأن بعث الأجسام كان قد أصبح من العقائد
الأساسية في الإسلام واليهودية. ولما كتب دلالة الحائرين بالحروف العربية
أثار عقول العلماء في العالم الإسلامي؛ فقام عبد اللطيف، وهو عالم من علماء
المسلمين، يسفهه لأنه "يهدم أركان جميع الأديان بنفس الوسائل التي يخيل
إلى الناس أنه يدعمها بها". وكان صلاح الدين وقتئذ منهمكاً في حرب حياة أو
موت من الصليبيين؛ وكان السلطان من المستمسكين طول حياته بأصول الدين، وكان
في هذا الوقت، بنوع خاص، أكثر بغضاً للإلحاد منه في أي وقت آخر لأن
الإلحاد في ذلك الوقت يهدد الروح المعنوية الإسلامية، والمسلمون منهمكون في
حرب مقدسة، بأشد الأخطار. ولهذا أمر في عام 1191 بإعدام السهرودي، وهو
صوفي زنديق؛ ونشر ابن ميمون في الشهر نفسه مقالة في بعث الموتى عبّر فيها
مرة أخرى عن تشكه في عقيدة الخلود الجسمي ولكنه أعلن أنه يؤمن بها على أنها
من قواعد الدين فحسب.
وسكنت هذه الزوبعة إلى حين، وانصرف هو إلى عمله الطبي وإلى كتابة
فتاوي دينية أو أخلاقية وصلت إليه من العالم اليهودي. ولما عرض عليه شمويل
ابن يهوذا بن تبون، وكان وقتئذ يترجم دلالة الحائرين إلى اللغة العبرية،
أنه يرغب في زيارته حذره من أن يظن أنه سيحدثه في أي موضوع علمي ولو مدة
ساعة واحدة باللي أو بالنهار لأن عمله اليومي يجري على النحو الآتي: "فأنا
أقيم في القسطاط بينما يقيم السلطان في القاهرة على بعد مسيرة يومي سبت
(ميل واحد ونصف ميل). وواجباتي نحو نائب السلطان جد ثقيلة؛ فعليَّ أن أزوره
في كل يوم في الصباح الباكر، وإذا ما كان هو، أو أحد أبنائه، أو أي فرد في
داخل حريمه، منحرف المزاج، فلن أجرؤ على مغادرة القاهرة بل عليَّ أن أقيم
معظم النهار في القصر... ولا أعود إلى الفسطاط إلى ما بعد الظهر... وأكون
وقتئذ قد أوشكت أن أموت من الجوع. ولكني أجد غرفة الاستقبال مزدحمة بالناس،
من رجال الدين، وموظفي الدولة، والأصدقاء، والأعداء... فأنزل عن دابتي،
وأغسل يدي، وأرجو مرضاي أن يصبروا عليَّ حتى أتناول بعض المرطبات-وتلك هي
الوجبة الوحيدة التي أتناولها كل أربع وعشرين ساعة. ثم أستقبل مرضاي...
وأظل كذلك إلى أن يحل الليل، وقد أستمر على ذلك في بعض الأحيان حتى تمضي من
الليل ساعتان أو أكثر من ساعتين، فأصف لهم الدواء وأنا مستلق على ظهري من
فرط التعب، حتى إذا جن الليل تكون قواي قد خارت حتى لا أستطيع الكلام.
ولهذا لن يستطيع إسرائيل أن يجتمع بي على انفراد إلا في يوم السبت. ففي ذلك
اليوم يقبل عليَّ جميع المصلين، أو الكثرة الغالبة منهم على أقل تقدير،
بعد صلاة الصبح، ليتلقوا عليَّ بعض العلم... ونظل ندرس معاً حتى الظهر ثم
نفترق. وقد أنهك هذا الجهد قواه قبل الأوان. وقد طلب إليه رتشرد الأول ملك
إنجلترا أن يكون طبيبه الخاص، ولكن ابن ميمون لم يستطع تلبية طلبه.
وأدرك وزير صلاح الدين ما حل به من الضعف فسمح له أن يعتزل منصب
ورتب له معاشاً، ثم توفي عام 1204 في التاسعة والستين من عمره، ونقلت رفاقه
إلى فلسطين ولا يزال قبره قائماً في طبرية.